أروع قصص أدبية قصة العبد الجاحد
سنحكي في تلك المقالة واحدة من أروع قصص أدبية قصة العبد الجاحد ففي قديم الزمان وسالف العصر والأوان، كان يعيش في مدينة الموصل تاجر غني في قصر كبير، مثل قصور الأمراء تترامي حدائقه وجنائنه إلى مياه نهر الدجلة.
وكان لهذا الثري صبي أو حد يافع أمرد وهو في مطلع شبابه، حسر الثري همها ليكون ابنه قدوة في الأخلاق والعلم والأدب فجمع له أحسن المربين والمعلمين من كل فرع من فروع الثقافة والتهذيب حتى صار قدوة بين أطرافه ومثاله، وكان مطيعا لا يخرج على أبيه في أمر.
كم لا يذغن له في كل أمر انما اعتاد ان يجري النقاش والحوار عندما يعرض لهما أمر يقتضي الفصل فيه،
وكان هذا سبي رفيقا بالخدم، والغلمان، يعاملهم بالحسن، ولا يقسو عليهم، بل كان يوجههم ويرأف بهم، ولهذه الأسباب كان أثيرا عند الجميع، ومحبوبا منهم، يتدافعون لخدمته.
وكان تاجر من عيان الموصل يزوره كبار رجال الدولة وحاشية السلطان فيكرمهم ويطرون عليها، وكانوا دائما كل من صرفوا من مأدبة أقامها لهما حلفوه، وألحوا عليه بأعظم الأيمان وقالو له يا أبا منير لا توفرنا في حاجتك، فأقل شيء نفعله هو أن تمكننا من أن رد بعض جميلك علينا،
فيبتسم التاجر لهم ويقول أنتم ذخري وكنزي أنتم أصدقائي، ولكن لا أحوجني الله إلى مساعدتكم، فيأخذون كلامه على سبيل المزاح، ويقهقهون وهم يغادرون ويتوزعون في شوارع وأزقة الموصل إلى دورهم ومساكنهم.
وكان هذا التاجر الموسر قد اقتصر تجارته على الاتجار بالحرير، وأثمن القماش، ولا يتعداه إلى غيره، لذلك كان معظم زبائنه من الأمراء والسلاطين وأثرياء البلاد،
وكانت تجارته واسعة جدا، يأتيه الحرير من الصين، وتأتيه الأقمشة من الهند، وتحملها قوافله، إضافة إلى ما كان يتم صنعه في الموصل إلى قاسي البلاد إلى القسطنطينية وإلى الإسكندرية ومصر كما إلى الأندلس فلوس وغيرها من البلدان الكثيرة، فهو يتقن تجارته،
كما يستخدم أمهر الصناع عندما يتعلق الأمر بالأمراء والسلاطين، وما يرغبون فيستعمل خيوط الذهب والفظة بإتقان قل نظيره.
كما يبتدع له الرسامون أحسن الأشغال وكان في جملة من يقوم في خدمة الثري وأسرته غلام اسمه مدبر، غير أن أهل الدار، وكانوا على جانب كبير من الرفعة في الذوق، لم يستسيغوا اسم النشاز هذا يتردد في رحاب القصر وحدائقها، وهو نعت يثير الهزء والسخرية فقلبوه إلى مقبل، وأجبروا الجميع على التقيد بذلك.
ظنا منهم بأنه قد يكون لذلك وقع خاص عند الغلام، فينشأ فيكن فيهم أحسن نشأة، وخصوا هذا الغلام بخدمة ابنهم ووحيدهم منير يلبي له رغباته، ويلعب معه طوال النهار، وكلما اقتضت للصبي حاجة.
ومع مرور الأيام صار اسم مقبل على كل لسان، وصار الغلام بمكانة ابنهم، فكانوا يعاملونه أحسن معاملة، ويغدقون عليه كلما سنحت الفرصة لهما بذلك،
وكان منير ومقبل في سن متقاربة، ولهذا السبب توثقت الصلات بينهما، فصارا لا يفترقان ويمضيان ساعات الله على أحسن حال، وأكمل انسجام.
ولم يشعر الغلام مقبل أنه في منزلة أدنى من منزلة تربه منير، كما لم يسمع منه، ولو بس هو الخطأ مرة ما يشير إلى ذلك برغم من أن الغلام كان مملوك اشتراه التاجر من النخاسة ذات يوم،
وهو حديث السن يلم يكمل استبدال أثنان الحليب، في فمها، وكان الغلام مقبل يضمر في نفسه شيئا آخر، ليس يهمه الكرم الذي أحاطه به سيده، ولا اللطافة التي لم يعامل بغيرها، إنما كان الحسد والحقد يكمنان في أعماقه،
فهو كلما اختلى لنفسه حدثها وقعا، ويقول اللعنة عليا وعلى اليوم الذي خرجت فيه إلى هذه الدنيا شقيا مملوكا، فليس والله على هذه الأرض عدالة. فلماذا يولد منير وفي فمه ملعقة من ذهب؟ وأولد أنا وفي عيني قذي ورمد،
ويرسل نهدة عميقة، ويلتمع الحقد في عينيه؟ وتتفجر دمعتين، تجريان على خديها، قبل أن يستسلم لسلطان الرقاد، وينام على حزن وألم،
وفي يوم من الأيام حدث أنه خرج الثري بأسرته إلى بستان لوالي الموصل ملبيا دعوته وقد أصر الوالي أن يقتصر الحضور عليه وعلى أسرته وحاشيته المقربة جدا منها، دون الغلمان والخدم، وسواهم، لأن سلطان بغداد سيكون ضيف شرف هذه المأدبة.
مكث مقبل، في جملة الخدم والغلمان في القصر، ولم يرافق تربه فاستبد به الحقد الدفين في أعماقه وعزم على الانقلاب على وضعه كله.
فراح يفتش في حجر القصر، ومخادع هو ديوانه. كمن يبحث عن ضالة لا يعرف كنهها حتى وقع نظره على كيس فيه دراهم نسي التاجر أن يجعله في خزانته الحديدية، فتناوله على عجل، وولى هاربا مبتعدا عن القصر.
فاستقبلته البرية بعد أن عبر نهر دجلة وبعد حين، اختفى وراء التلال المشرئبة في الأفق، وضاع أثره.
وعندما عاد الثري وأسرته من المأدبة، استفقدوا الغلام المقبل، فلم يقفوا له على أثر، فأفادهم بعض الخدم أنهم رأوه يخرج من القصر مسرعا، ولم يروه، بعد ذلك في قال ثري بأن الغلام قد ولى الأدبار وهرب. فلم يحرك الثري ساكنا بل قال هذا شأنه فنحن لم نسئ إليه.
ومرت السنون، وطوى النسيان اسم مقبل، حتى كان يوم طلب الابن من أبيه أن يخرج إلى النصيبين في نزهة وعمل، فهو يشتاق أن يرى الدنيا وأهلها كما تقتضي مصلحة أن يتفقد تجارة، ويتعلم منهم.
وفي اليوم التالي ركب منير. دابته، قاصدا النصيبين، فوصلها بعد أيام، فوجدها مدينة جميلة تضيع دورها وعماراتها بين الأشجار والبساتين، فاستقل جانبا من خان وبات فيه ليلته.
وفي صبيحة اليوم التالي، خرج منير ليتفرج على معالم النصيبين، وقد جعل في كمه منديلا مملوءا بدراهم،
وبينما هو يجتاز بعث أسواق نصيبين وقع نظره على غلامه مقبل فأسرع نحوه، وحين رآه الغلام ورحب به أحسن ترحيب، وأظهر سرورا عظيمة، وراح يسأله عن أبيه وأهله، والشاب يجيبه، ويعلمه خبر من مات من بقي.
فقال الغلام يا سيدي، متى دخلت إلى هنا؟ وفي أي حاجة؟ فاعلمه الشاب علة وجوده، أخذ الغلام يعتذر عن هربه، وسرقته لكيس الدراهم والشاب يهون الأمر عليه
وقال الغلام أنا مستوطن هنا وأنت مجتاز يا سيدي. والغريب تطولي الي هو لا يجد من يؤنسه، فيثور القلق في نفسه، تجيء إلى مسكن اليوم، فإني أحضر لك بعام طيب، وهذا البلد مشهور بطعامه. فقال الشاب كما ترى،
فمشى الغلام، ومشى الشاب خلفها، وتعالى الطريق، فارتاب شاب وسأل ويحكى أين بيتك فقد سرنا بعيدين عن قلب المدينة، فابتسم الغلام ابتسامة ماكرة وقال لها لم يبقى سوى خطوات، ونكون في الدار .
اجتازا النصيبين وسارا، في بعد بساتينها، وما يزالان يمشيان فأخذ الشاب يبدأ انتابه الخوف من تصرف الغلام مقبل، ولكنه كتمه، وسار يلحقه حتى بلغ آخر النصيبين في درب خراب يقارب البرية، فطرق بابا، فخرج رجل، ففتح الباب.
فدخلا سويا إلى الداعر، وأغلق الباب دونهما، وحين سارا في دهليز المؤدي إلى الديوان الدار الواسع، هرع رجل نحو الباب ورده ردة عنيفة ثم استوثق منغلقه غلقا محكمة فأنكر شاب ذلك وأدرك بأنه ضحية مؤامرة دنيئة ساقه الغلام إلى شباكها.
فتمالك نفسه، ودخل فوقع نظره على 30 رجلا مصطفين على محيط جدران الديوان الأربعة وسلاحهم ظاهر للعيان، السيوف مرمية بغير انتظام أمامهم وخناجرهم في مناطقهم.
وعندما لمحه للصوص، ومزقوه بأنظارهم والشرر يتطاير من أحداقهم، فعرف أنهم عصابة من لصوص خطيرين، وأن الغلام مقبل عين لهم فيعيق ناب البلية وبالشر وسوء المصي.
ثم قال لها انزع ثيابك فطرح كل ما كان عليه إلا السراويل، وقد الح عليهم بتركها سترا له فتركوه، وحلزا منديل كميه وأخرجوا منه 30 درهما وقالوا لمقبل امضي وهات لنا شيئا نأكله.
فتقدم مقبل وهمس في أذن أحدهم، وهو رئيسهم فقال الرئيس بصوت مسموع. لا بد من قتله، أي أحذر لنا من أكل، فإذا جئتنا به قتلناه فصرخ الغلام بصوت غاضب لأمضي قبل أن تقتلوه،
فتمالك الشاب رباطة جأشه، وقال لهم يقوم ما ذنبي؟ ولما اقتل؟ قد اخذتم مالي وثيابي، فدعوني أذهب إلى حال سبيلي ثم التفت نحو مقبل وقال له هذا من حقي يا مقبل وحق أبي ويحك ألا ترحمني.
فصرح مقبل صرخة عظيمة وقال إنكم إن لم تقتلوه خرج ونبه عليكم الوالي فيقتلكم كلكم، فجذبه أحدهم، وقد امتشق سيفه مجردا، وسحبه من صدر الدار التي كانوا فيها إلى بلوعة تجري المياه وتحتها وهما ليذبحه عليها،
فوقعت عينه الشاب الموwلي على غلام كان في جملتهم، وكان في مثل سنه، فتوسل إليه وقال له ارحمني، فأنت غلام في مثل سني، وإن خلصتني من يد هؤلاء و أجرتني فلك أجر عنده تعالى تدفع به البلاء عن نفسك.
وبكى الشاب وانتحب وهو يحلف بأنه لن ينبه عليهم أحدا أبدا، ولن يفوه بكلمة عنهم إن هم تركوها. فنهض ذلك الفتى ورمى بنفسه عليه وقال والله لا يقتل وأنا حي فإما قتلتموني قبله وإلا فلا تقتلوه.
وتعصب له أستاذه وقال غلامي أجاره، فلا تقتلوه، فشتموه، وشتموا غلامه، وتعصب للمستجيرين جماعة منهم واندفعوا وخلصوه وابتعدوا به من البلوعة المشؤومة.
وقد كانت الرجل أن يذبحه عليه فأجلسوه، في وسطهم، وجلسوا من حوله بينما كان الآخرون يشتمون الغلام، ولكن الحماة ظلوا على حرصهم عليه، ومنعوا عنه القتل، وقالوا نحن جياع فاتون بشيء ناكله وقتل هذا لا يفوت، فقال له الباقون ما قاله الحماة فكفوا عنه.
ومضي مقبل واشترى الكثير من الطعام وجاءهم به فجلسوا يأكلون، والموصلي الشاب يتخوف من أن يتغافله منهم إنسان في قتله غادرة،
فأومأ لذلك الفتى وغلامه، فتركا مكانهما، وجلس هو وأستاذه يحفظان الموصلي إلى أن فرغت جماعة اللصوص من الأكل، فوكلا به قوما من ثقتهم، ممن فرغا من الطعام، وعادا يتبعان الأكل، واستدعياه للأكل معهما،
فأراد الموصلي إيجاب الذمام عليهم، أي أن يصير بينهم خبز وملح، فأكل معهم أكل مغرض. لقمة واحدة، أو لقمتين بلا شهوة، وهو يرتعد خوفا وهلعا.
وبعد أن انتهى الطعام، قام مقبل، وقال وكأن له ثأر عند الشاب البريء الآن أكلتم وترك هذا الفتى خطأ يؤدي بنا جميعا للهلاك، فاقتلوه، فعاد الكلام في قتل الموصلي ويقبل هؤلاء يمنعون، وتزايد الأمر إن أن جرد بعضهم سيوف على بعض،
وجعل المدافعون عن الموصلي الشاب وراءهم، وأقبلوا يجادلون ويذودون عنه، وأولئك ينخسون من خلفهم بأطراف سيوفهم، والشاب الموصلي يجتهد في تجنب أذاهم ويتعلق بالمدافعين عنه من حلاوة الروح، خوفا من أن يصل إليه المهاجمون فيقتلوه،
وهو يحلف له صارخا بأنه إذا سلم لن ينبه عليهم، واستمر الحال حتى كادوا يتجارحون، فتدخل البعض في الأمر وقالوا لا يكون هذا الفتى سببا اقتتالنا وخلافنا فيما بيننا، فيكون شؤما علينا فدعوه، فتوافق على الكف عن الموصلي، وجلسوا يشربون،
فلما أرادوا أن يخرجوا قبل الفجر، قالوا يتوكل له من يتعصبوا له حتى نخرج نحن فإن صاح ابتلي به نت خلصه.
فقال الفتى وأستاذه للشاب الموصلي قد سمعت يا فتي، فلا تكافئ، نعلى جميلنا بقبيح، فحلف لهما الشاب بأنه لن ينبه عليهم أحد، فخرجت الجماعة إلا الغلام وأستاذه، فلما بعدت الجماعة، و ساد الصمت والسكون. عندها خرجا معا.
وعندما سار الفتى وحيدا، أغلق الباب وترسه، ووقع مغشيا عليها من غشيته، إلا عندما لحقه برد قارس أرعد فرائسه وقد كان السحر وسمع صوت الدبادب دوق بالوالي من نومها. فخرج عريانا يجري في أزقة النصيبين، وشوارعها، حتى وصل إلى الخان،
ولشدة فزعه جمع أغراضه على عجل، وغادر الخان وعاد إلى الموصل، وقد آل على نفسه بألا يمضي إلى موضع لا يعرفه، ولا يوافق من لا يعرف باطنه وحمد الله على سلامته،
وعندما سار بين أهله لم يحدث أحدا عن الحادث لبقية فزع في نفسه، وانقضت سنة أو قريب منها على هذه الحادثة.
وفي أحد الأيام، صادف أن كان الشاب عند صاحب الشرطة قصة بينه وبين والد الشاب الموصلي من أيام وجود صاحب الشرطة في الموصل فلم يلبث أن أحذر بعض الجندي جماعة من اللصوص لحضرة صاحبي شرطة، وقد عثرت عليه من الدوريات في إحدى القرى القريبة من النصيبين وتمكنوا من إلقاء القبض على سبعة أنفار منهم بعد أن هرب الباقون.
فوقع بصر الشاب الموصلي على ذلك الغلام الذي أجاره، وعلى أستاذه وعلى مقبل، فأخذته الرعدة، وبانت عليه، وأخذ صاحب شرطة مقبلا من بينهم، ثم التفت إلى الشاب الموصلي وقد رأى حاله، فسأله قائلا مالك ترتعد؟
فقال الشاب إن حديثي طويل، و لعل الله أراد بحضور هذا المجلس سعادة البعض، والشقاء بعض الآخر، فألح صاحب الشرطة على الشاب بالحديث والإفصاح عن سره دون خوف ولا وجل، فحدثه الشاب بما جرى له تماما مع القوم،
فتعجب وقال هلا شرحتها لي من قبل وأنت في ضيافتي منذ أيام على ما بين وبين أبيك من مودة وصداقة، حتى كنت أطلبهم وانتصف لك منهم؟
فقال الشاب إن الفزع الذي كان في قلب منهم، لم يمكن لساني من البوح والكلام.
فسأل صاحب الشرطة وقال من ذا الذي كان معك من هؤلاء؟ فقال الشاب الغلام، وأستاذه، وواحد من الباقيين، فأمر بحل كتافهم وتمييزهم من بين أصحابهم، ودعا مقبل، وقال ما حملك على ما فعلت بابن سيدك؟
فقال مقبل سوء الأصل، وخبث والعرق، وظروف الزمان فأمر به فضرب عنقه وأصحابه الباقين.
ودعا الغلام، وأستاذه وصاحبهما وقال لقد أحسنت هما في دفعكم عن هذا الفتي. ولله ويجزيكم عن فعلكم الخير فتوبا إلى الله من فعلكما وانصرف في صحبة الله مع صاحبكما ولا تعودا إلى ما كنتم عليه من التلصص،
فقد مننت عليكم لحسن صنيعكما مع هذا الفتى، فان ظهرت عليكما ثانيه، ألحقتكم بأصحابكم وشكر الشاب صاحب الشرطة وحمد الله على توفيقه لقضاء من أجاره والانتقام ممن ظلمه،
ثم سار إلى ذلك الغلام وأستاذه وسألهما أن يختلف إليه، وأمن لهما عملا شريفا يرتزقان منها بعد أن عاد إلى أهله في الموصل.
وعرف الجميع بقصته، وجعل الفتاوى أستاذة تحت رعاية، بعد أن عزف عن التلصص وارتكاب الآثام.