عن الحرب العثمانية البندقية فإنها واحدة من أهم الحروب التي قادها السلطان العثماني محمد الفاتح، حرب استمرت أكثر من عقد ونصف من الزمان بين الدولة العثمانية ودولة البندقية، تحالف فيها الكثير من الأعداء ضد الدولة العثمانية،
لكنها نجحت في دحرهم لتصير عصير قوة عالمية يحسب لها ألف حساب إنها الحرب الحرب العثمانية البندقية تابعون للنهاية.
ظهور دولة البندقية علي الساحة السياسية
بدأت البندقية في الظهور تدريجيا بوصفها جسم سياسيا مستقلا بعد انهيار الإمبراطورية الرومانية، وبحلول أواخر القرن التاسع كانت استقلالية المدينة آخذة في الرسوخ وكذلك قواتها التجارية،
مستفيدة من الموقع البحري المتميز في أعلى البحر الأدرياتيكي الذي يتوسط في موقعه البحر المتوسط ويفصل بين شبه الجزيرة الإيطالية وشبه جزيرة البلقان وما يحويان من حواضر سكنية كبيرة.
يذكر الدكتور محمد سالم الرشيدي في كتابه السلطان محمد الفاتح أنه منذ نهاية القرن الرابع عشر الميلادية بلغت البندقية درجة عظيمة من القوة بما انشأته من تجارة هائلة ومستعمرات كثيرة، ومحطات ومراكز هامة في بحار الشرق،
ومئات سفن التي تنقل المتاجر والأمتعة من مختلف بلاد العالم وتدر عليها الأرباح الوفيرة دون أن يكون لها منافس حقيقي في البحر.
وأصبحت البندقية قوة تجارية وحربية لا يستهان بها بعد أن ضمت عشرات المستعمرات على سواحل الأدرياتيكي و بحر إيجة هو على أرض البلقان.
تاريخ الصراع بين العثمانيين ودولة البندقية
لكن مع صعود الدولة العثمانية ونموها المتزايد يوما بعد يوم بدأت البندقية تنظر بقلق إلى تلك الدولة الفتية، إذ خشو من أن تعرقل تجارتهم، أو تقطع سبيل مواصلاتهم، ومن ثم أخذوا يتوددون إليها ويعقدون معاهدات معها بما يضمن سلامة تجارتهم.
لكن ما لبث أن وقع صدام بين العثمانيين و البنادقة عام 819 للهجرة. 1416 للميلاد، حيث اشتبكت السفن البندقية مع السفن العثمانية في الدردنيل وسحقتها، ولا عجب، فقد كان البنادقة سادة البحر منذ زمن، أما العثمانيون فقد كان عهدهم قريبا بالبحر.
لكن العثمانيين استطاعوا يوجه ضربة للبنادق عام 833 للهجرة 1430 إذا انتزع منهم مدينة صلونيك.
وفي محاولات لمواجهة التمدد العثماني، أخذ البنادقة يوم دون الحملات الصليبية على العثمانيين بمدد لا ينقطع من المال والرجال، ويعملون على تقوية الدولة البيزنطية، وشد أزرها في مواجهة العثمانيين، واشتركوا في الدفاع عنها عندما أقدم السلطان محمد الثاني على فتحها.
حيث تحقق له النصر المبين، وتمكن من فتح مدينة القسطنطينية عاصمة الإمبراطورية البيزنطية عام 1453.
فاتخذت البندقية سبيل الدبلوماسية ظاهريا، وأرسلوا إلى الفاتح، يتفاوضون معه من أجل الحصول على أفضل الشروط التي تضمن لهم المصالح الاقتصادية، واعتذروا للفاتح عن موقفهم العدائي من العثمانيين
لكن البنادقة لم يكونوا صادقين في مودتهم تلك، بل كانوا يضمرون العداء للعثمانيين وعملوا على دعم المتمردين ضد الدولة العثمانية التي لم تكن غافلة عما يجري.
فقد أدرك العثمانيون من خلال المخابرات الخاصة بهم حقيقة تحركات البندقية ودهاء سياستها وخطورتها، وبدا من الواضح أن الدولتين سوف تصدمان قريبا جدا.
بالرغم من المعاهدة المبرمة بين الدولتين، إلا أنها كانت معاهدة مؤقتة، إذ كان من الطبيعي أن تصطدم الدولتان الطموحات ان ببعضهما ف الدولة العثمانية بعد فتح القسطنطينية أطلقت جيوشها باتجاه أوروبا لنشر الإسلام فيها ونجحت في ضم الكثير من المدن إلى الدولة العثمانية.
ومع هذا التمدد العثماني الهائل، فقدت البندقية امتيازاتها البحرية في المضايق البحرية وجزر بحر إيجة، وزاد في قلق البندقية اهتمام الفاتح بتقوية الاسطول، وتحصينه مضيق الدردنيل بعد البوسفور إحكاما في مراقبة السفن التي تنتقل بين البحر الأسود والبحر المتوسط.
ولأن البندقية تعتبر البحار الميدان الذي يجب أن تتفرد بالسيادة فيه بغير منازع فلم تكن لتقبل أبدا بهذا التمدد، وازداد توتر بين الدولتين.
ثم وقع الحادث الذي كان السبب في اشتعال الحرب بينهما والتي استمرت 16 عاما كاملا.
تعدي البندقية علي اليونان التابعة للدولة العثمانية
في عام 864 للهجرة 1463 فر عبد من خدمة والي أثينا العثماني، وسرق معه مال الخزانة، ولجأ إلى البندقية، ولما طلب والي أثينا برد هذا العبد و المال المسروق رفض البنادقة لتكون تلك الحادثة هي الشرارة التي أشعلت الحرب بين العثمانيين و البنادقة.
إذا زحف حاكم المور العثماني نحو أرجوس التي تتبع البندقية واحتلها، وأغارت كتيبة أخرى على أطراف ليبانت، كذلك فقد زحفت كتيبة ثالثة نحو مدينة مودون، فحشدت البندقية جميع قواها للحرب وحرضت الروم في الموري على ثورة ضد العثمانيين.
كما استولى البنادقة على عدد من المدن والقلاع التي كان تحت سيطرة العثمانيين في الموري، لكن ما لبث العثمانيون أن استعادوا سيطرتهم عليها.
أما الروم الذين ثاروا ضد الحكم العثماني، وساعدو البنادقة، فقد بدأوا يشعرون بالقلق وخيبة أمل من مجيء الحملة الصليبية التي وعدتهم بها البندقية لتشد أزرهم فتخلوا عن مساعدة البنادقة في النهاية.
ظل الصراع على مدن اليونان التي تسيطر عليها الدولة العثمانية سجالا بين البنادقة والعثمانيين طوال ثلاث سنوات، ارتكب خلالها البنادقة أحط ضروب الوحشية والبربرية واللصوصية، وأمعنوا في قتل ونهب الروم الذين تخلوا عن مساعدتهم وارتكبوا كل أنواع الموبقات.
ولم ينل الروم سوي والدمار والخراب، فلاذوا بالعثمانيين ينشدون حمايتهم.
كانت البندقية منذ أن بدأت حربها مع الدولة العثمانية، تحاول البحث عن حلفاء في كل مكان للوقوف إلى جانبها في هذه الحرب، وقد رأت في إمارات الأناضول المستقلة مبتغاها، فحاولت التحالف مع إمارة قرمان، وكان أمير القرمان قد استغل انشغال الفاتح في أوروبا، فأخذ يعمل على ضم المقاطعات العثمانية المجاورة إلى إمارته، بل وتحالف مع البندقية.
فزحفت إليه الجيوش العثمانية، ونجحت في ضم إمارة قرمان إلى الدولة العثمانية، وتعيين حاكم لها موالي للفاتح عام 1467 للميلاد 872 للهجرة.
اتجه البنادقة إلى القاهرة حيث الدولة المملوكية، مستغلين الخلافات الحدودية التي بدأت تتصاعد بين المماليك والعثمانيين على مناطق السيطرة جنوبي الأناضول.
لكن الممالك رفض أي تحالف مع ما يرونهم أعداء الإسلام ضد العثمانيين من أجل بعض الصدامات الحدودية.
لكن البندقيات لم تتوقف عن محاولة الحصول على حلفاء، ووجدت ضالتها ماتياس كورفينوس، ملك المجر، و أوزون حسن، زعيم القبائل الآق قوينلو وتركمانية وقبائل الآق قوينلو تركمانية. هؤلاء هزموا بقايا المغول التيموريين وأسسوا لأنفسهم دولة قوية تسيطر على أجزاء كبيرة من إيران والعراق و جنوبي القوقاز والجزء الشرقي من الأناضول.
وقد نظر زعيم الآق قوينلو أوزون حسن بتوجس إلى توسعات الفاتحة في الأناضول، ثم تطورت الأمور سلبا إلى صدام مسلح مع العثمانيين انتهى بضم العثمانيين لميناء طرابزون عام 1461 للميلاد والذي كان تحت حماية أوزون مما أثار غضب هذا الأخير.
أدى هذا العداء بين أوزون ومحمد الفاتح إلى نجاح مفاوضات البندقية مع أوزون للتحالف ضد العثمانيين، وفي الوقت نفسه، فقد أخذت البندقية تعمل جاهدة على شن حرب صليبية برعاية البابا ضد العثمانيين.
الحرب العثمانية البندقية
دعونا الآن ننتقل إلى الجانب العثماني لنتعرف على تطورات الأمور هناك، فبعد حملات القرصنة الشعواء التي شنها البنادقة ضد مدن اليونان التابعة للعثمانيين، غضب السلطان محمد الفاتح غضبا شديدا، وقرر توجيه ضربة قوية للبنادقة.
فكان أن وجه حملة إلى مستعمراتها الكبرى نيجربون، وبالرغم من أن هذه الجزيرة كانت على جانب كبير من القوة والمناعة، إلى جانب شراسة واستبسال حاميتها في الدفاع عنها فقد سقطت في النهاية في يد العثمانيين عام 875 للهجرة 1470 للميلاد.
كان لسقوط نيجربون دوي هائل في أوروبا، فقد أصبحت الشواطئ الإيطالية مفتوحة أمام العثمانيين، فارتعد البابا بول الثاني من ذلك، و نبذ كل الخلافات بينه وبين الدول الأخرى وأخذ يعمل على تكوين جبهة متحدة ضد العثمانيين،
وقد وجد البابا في اوزون حليفا أكثر حماسا، وعزما لمقاتلة العثمانيين، فقد كان اوزون يطمح إلى الاستيلاء على أراضي الدولة العثمانية وعلى دولة المماليك حتى إنه لم يتوانى عن الاعتداء على الأراضي الإسلامية.
وقد كانت الخطة التي رسمها أوزون أن يبدأ أولا بالدولة العثمانية التي كانت حينذاك تتكالب عليها القوى الصليبية والمتمردون، حتى إذا ما فرغ منها اتجه بقواته إلى مصر للاستيلاء عليها، ثم غير رأيه، وقرر أي هاجم الدولة العثمانية ودولة المماليك في آن واحد.
توفي البابا بول الثاني قبل أيار نتيجة مفاوضاته مع أوزون فتولى البابا سيكستوس الرابع مكانه وواصل جهود سلفه في محاربة الدولة العثمانية وعمل على استئصال أسباب الشقاق بين ملوك أوروبا حتى يوحد قواهم ضد العثمانيين.
ولم تسفر الجهود التي بذلها البابا سوى في تكوين حلف ثلاثي بينه وبين البندقية، و مملكة نابولي، كما انضمت بعض من قوات رودس إلى هذا التحالف، واتجه الصليبيون إلى المدن العثمانية بآسيا الصغرى وعاثوا فيها فسادا وقتلا وتدميرا.
في الوقت الذي استعان فيه أوزون بل بالفرنج لتحقيق هدفه فكان عن طلب من حلفائه النصارى أن يشنوا هجوما بحريا شاملا على شواطئ العثمانية والمصرية بينما يقوم هو بمهاجمة الدولتين من ناحية البر.
وبالفعل فقد هاجم جيش الأوزون حسن مدينة توقات، وأمعنوا فيها دمارا وقتلا ونهبا ثم واصلوا تقدمهم إلى الجنوب ينشرون الموت والدمار في كل مدينة يدخلونها حتى وصلوا إلى مدينة قونية حيث التقوا هناك بالجيش العثماني الذي مزقهم كل ممزق.
وما إن علم أوزون بالهزيمة الساحقة التي نزلت بجيشه، حتى سحب جيشه الذي أرسله إلى مصر، وحشد جميع قوات، لتوجيها ضد الدولة العثمانية.
والتقى الجيشان في معركة حامية الوطيس كان النصر فيها حليفا للعثمانيين، وهزم أوزون هزيمة نكراء، لكن مع ذلك قرر أن يتحالف مجددا مع القوى الصليبية ضد الدولة العثمانية غير أن الموت كان له أسبق، فارتاح المسلمون من شروره.
بعد هزيمة اوزون حسن، توقفت الحملات الصليبية على مدن آسيا الصغري، لكن الحرب بين الدولة العثمانية والبندقية لم تتوقف، فقد شنت الجيوش العثمانية حملات عسكرية متلاحقة ضد دولتي المجار والبندقية في الفترة ما بين عامي 1474 و1479 للميلاد.
لكن كان التركيز الأكبر على البندقية، خاصة في ألبانيا، حيث حاول الفاتح فتح مدينة اشقودرة الحصينة في عام 1474 وعام 1478 و1479، لكن كان كل ذلك دون جدوى، فقد صمدت حامية المدينة بعد دعم كبير من قوات البندقية.
ونجح العثمانيون في التوغل شمال البلقان واختراق أراضي كرواتيا والاستيلاء على حاضرتها زغرب، ثم توغل غربا حتى وصلوا إلى مقربة من مدينة البندقية نفسها، وخربو الكثير من ممتلكات البندقية في شرق إيطاليا.
معاهدة القسطنطينية عام 1479
أمام كل ذلك، اقتنعت البندقية بأنه لا جدوى لاستمرار تلك الحرب المفتوحة مع العثمانيين، وأنه لا مفر من اتفاق سياسي لإنهاء الحرب.
وهكذا وقعت معاهدة القسطنطينية عام 1479 للميلاد، التي تنازلت فيها البندقية للعثمانيين عن معظم مناطق البانيا، وكذلك آلت شبه جزيرة الموري اليونانية إلى العثمانيين، في حين احتفظ البنادقة ببعض المعاقل على ساحل الأدرياتيكي الشرقي.
رسخ النصر العثماني في تلك الحرب الوجود العثماني لقرون في شبه جزيرة البلقان وشرق أوروبا ونقل الدولة العثمانية من لاعب إقليمي قوي إلى أعتاب البروز كقوة عالمية يحسب لها ألف حساب
. نأمل بأن يكون المحتوى قد نال إعجابكم، ابقوا في امان الله والسلام.
