قصتنا اليوم مختلفة عن كل قصة فهي قصة سيدة وصفها الرسول صلى الله عليه وسلم بالكمال مع آسية بنت مزاحم امرأة فرعون وأم المؤمنين خديجة بنت خويلد وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قصة اليوم عن سيدة اصطفاها الله عز وجل على نساء العالميين وجعل لها صورة كاملة في القرآن الكريم باسمها
قصتنا اليوم عن المرأة التي أنجبت بدون أن يمسها بشر لتكون آية إلى يوم يبعثون قصتنا قصة السيدة مريم العذراء رضي الله عنها وأرضاها
والد السيدة مريم العذراء
قصة السيدة مريم بنت عمران بدأت قبل مولدها عليها السلام وذلك عندما تزوج والد السيدة مريم العذراء وهو عمران ابن ماثان صاحب صلاة بني إسرائيل في وقته والذي كان يتصف بالأخلاق الفاضلة والورع والتقوى ويرجع نسبه إلى سيدنا سليمان بداوود عليهما السلام
تزوج عمران ابن ماثان والد السيدة مريم العذراء من حنة بنت فاقود أم مريم العذراء عليها السلام ويرجع نسبها إلى نبي الله هارون عليه السلام أي أن والدي مريم العذراء من نسل الأنبياء
لم يرزق الله عز وجل حنة بنت فاقود بالحمل فور زواجها بل بقيت عاقرا فترة كبيرة من الزمن وهو ما جعلها تعاني من نظرات قومها لها كامرأة عاقر لم تلد لزوجها طفلا
وفي صباح أحد الأيام خرجت حنا تتنزه وسط الطبيعة الساحرة في فلسطين ورأت أمامها عصفور يصيح ويغرد وخرجت من أحشائه بيضة فبكت وقالت أيا ربي أنا غير قادرة على أن أكون مثل هذا العصفور الصغير
وقيل أيضا أن حنة بنت فاقود أم السيدة مريم عليها السلام كانت قد يئست أن ترزق بالأولاد وكانت ذات مرة تجلس تحت شجرة ورأت طيرا من الطيور يطعم صغاره فلهف فاقلبها لصغير تربيه ورغم حزنها صبرت وأخذت من الدعاء وسيلة فكانت تدعو صباحا ومساءا
ورغم تقدمها في السن إلا أنها لم تفقد الأمل واستمرت في الدعاة لربها حتى أنها نذرت ثمرة بطنها لخدمة بيت المقدس وهو ما ذكره عز وجل في قوله تعالى {إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي ۖ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35)}
وبعد مرور الوقت توفي زوجها عمران ابن ماثان وعلمت هي بحملها فجعلت ما في باطنها نذيرة كما ذكرنا أي كثير العبادة لله تعالى ليس له بأمر الدنيا شيء سوى عبادة الله وطاعته
وقد قيل أيضا أن والد السيدة مريم عمران بن ماثان توفي في سنوات عمرها الأولى عليه السلام
قصة السيدة مريم العذراء
ولادة السيدة مريم العذراء
مرت شهور الحمل على السيدة حنة بنت فاقود صعبة في غياب زوجها الذي رحل عن الدنيا قبل أن يرى ذريته وعندما جاء وقت الولادة أنجبت حنة بنت فاقود أنثى وهي السيدة مريم العذراء فعرفت عندها أنها لا تستطيع تنفيذ نذرها إذ أن بيت المقدس لا يكون فيه إلا الرجال ولا يجوز للمرأة أن تجتمع معهم
فلهذا لم تنفذ نذرها وتجعلها في الكنيسة قال تعالى {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَىٰ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنثَىٰ ۖ وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36)}
أي أن حنة بنت فاقود بعدما عرفت أنها أنجبت أنت قالت إنها ليست كالذكر لأن الأنثى لا تقدر على خدمة بيت المقدس كما ينبغي لاختلاف طبيعتها عن الذكر ولأنه لا يصح أن تكون المرأة خادمة للأحبار وفي قولها هذا اعتذار تقدمه لله تعالي وهو أعلم بها وبنيتها وأعلم بما وضعت
أطلقت حنة على ابنتها اسم مريم من باب القربة لله تعالى والالتجاء إليه لكي يحفظها فتأخذ من اسمها نصيبا وتكون أفعالها كالمعنى الذي يحمله الاسم
إذ أن اسم مريم معناه في لغتهم العابدة والخادمة لدينها وأعاذتها بالله تعالى هي وذريتها من بكر الشيطان وكيده فتقبل الله تعالى من أم مريم ما نذرت وما أرادت من خير لبيت المقدس في نذرها وأعطاها أجر ذلك حيث قال تعالى فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا}
استجاب الله عز وجل لدعاء أم السيدة مريم عليها السلام وحفظها وذريتهما من الشيطان الرجيم
وهو ما جاء في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم حين روي ابو هريرة (سَمِعْتُ رَسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقولُ: ما مِن بَنِي آدَمَ مَوْلُودٌ إلَّا يَمَسُّهُ الشَّيْطَانُ حِينَ يُولَدُ، فَيَسْتَهِلُّ صَارِخًا مِن مَسِّ الشَّيْطَانِ، غيرَ مَرْيَمَ وابْنِهَا. ثُمَّ يقولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران: 36].) المصدر : صحيح البخاري
من الذي كفل السيدة مريم
ترعرعت السيسي السيدة مريم العذراء في بيت العبادة وكفلها نبي الله زكريا عليه السلام وقد قيل أنه زوج خالتها وقيل أيضا زوج أختها كما ذكرنا في قصة آل عمران ومعني كفالة زكريا عليه سلام لمريم بنت عمران أي أنها أصبحت في رعايته
وقد اختار الله تعالى نبي الله زكريا لهذه الكفالة المباركة بعدما حدث نزاع بين الصالحين في قومها لكفالتها فقاموا بإجراء قرعة بينهم وكان زكريا عليه السلام هو من فاز بالقرعة ولله تعالى حكمة وغاية في أن تنشأ في بيتنا نبي من أنبيائه
وهذا ما أخبر به الله تعالى حيث قال {ذَٰلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ۚ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44)}
بداية قصة السيدة مريم العذراء عليها السلام
تكفل الله تعالى لمريم برزقهم فكانت تلزم المحراب وتعتكف فيه فكانت منذ بلوغها تجلس فيه وهي تعبد الله تعالى وتتقرب إليه وكان كل ما دخل عليها زكريا عليه سلام وهو كافلها وجد عندها رزقا وكان يعجب لذلك ويسألها عنه وما كان منها إلا أن تؤكد له أن الرزق من عند الله تعالى من غير قدر ولا حد
وهو ما ذكره عز وجل في قوله تعالى {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا ۖ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا ۖ قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَا ۖ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ۖ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)}
اعتزلت السيدة مريم بنت عمران عليها السلام الناس وتفردت لعبادة الله تعالى وحده في محرابها وكان مكانه شرقي بيت المقدس
وفي أحد الأيام خرجت مريم العذراء عليها السلام إلى جانب المحراب بسبب الحيض الذي أصابها ليظهر لها جبريل عليه السلام متمثلا بصورة رجل سوي الخلقة وفي أحسن صورة فلما تفاجئت برؤيته استعاذت بالله عز وجل وبدأت ترجوه أن يتقي الله ويخافه فيها
فأخبرهم بأنه رسول من عند الله تعالى وبشرها بالمعجزة الكبيرة التي اصطفاها الله بها من دون البشر وهي ولادة ابن لها من غير وجود أب له
فما كان من السيدة مريم عليها السلام إلا أن تتعجب بعد هذه البشرى فهي غير متزوجة ولم يمسسها رجل قط وكانت عفيفة طاهرة لا سبيل لأحد من الرجال عليها وهذا ما أخبر به الله تعالى حين قال {قَالَتْ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20)}
بعدما بشر جبريل عليه السلام السيدة مريم بحملها وشعرت به ما كان منها إلا أن تعتزل الناس وتبتعد عنهم وتختلي بنفسها عن جميع الخلائق فذهبت إلى مكان بعيد عن أعين الناس لا يراها فيه أحد وذهبت وهي تعلم بحملها وتريد أن تخفيه عن الناس لكي لها يعلم به أحد
لما شعرت مريم عليها السلام بقرب ولادتها وأتتها مقدمات الولادة خرجت تبحث عن مكان يعينها في ولادتها وبسبب ألم الولادة اتخذت جذع نخلة لتتكئ عليه وتتعلق به ليعينها
وقد كانت تقاسي آلام الولادة وتفكر في العار الذي سيصيبها بعد الولادة حتى إنها كانت تتمنى الموت بسبب الموقف الذي كانت تعيشه إلا أن الله تعالى سهل عليها ولادتها فأرسل إليها جبريل عليه السلام يخبرها أن الله تعالى جعل لها سريا من تحتها
قيل أن السري هو عيسى ويقال كذلك للرجل بسبب كماله وليبشرها بأنه سيكون له شأن عظيم لكي لا تحزن وتهون عليها ولادتها
وقيل أن السري هو سيل من الماء يجري تحت المكان الذي تجلس به
ومن الخوارق في ولادة السيدة مريم لسيدنا عيسى عليهما سلام أن نجد عن نخلة التي كانت تعتمد عليه كان يابسا ولا يحمل الثمار فلما هزت الجذع أثمر وصار عليه رطب ليكون قد توفر عندها الماء والغذاء لتأكل وتشرب وتكون قريرة العين بولادة ابنها الذي سيكون غلاما سويا ورجلا نبيا ذو قيمة وشأن
وكذلك أن لا تكلم الناس فأمرها الله تعالى بالاطمئنان والسكون ونبذ الأفكار والوساوس المخيفة وعدم توقع ما تكره فالله تعالى معها وهو خير حافظ لعباده المؤمنين
كانت مريم العذراء تخشى الوقت الذي ستقابل فيه قومها وتخشى ما سيقولونه لكن الله عز وجل أمرها إن رأت أحدا من قومها أن تبقى صامتة فلا تكلمهم
حيث قال الله تبارك وتعالى {فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا ۖ فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا (26)}
لما أتت السيدة مريم عليها السلام إلى قومها وهي تحمل ابنها بين يديها استنكروا عليها ذلك واستعظموه فكيف يكون من هذه العابدة العفيفة ذات النسب الطيب أن تأتي بابن من غير زواج فقالوا لها بأن أباها لم يكن إلا رجلا طيبا وأنت أمها لم تكن امرأة يبغونها الرجال
وقاموا بتذكيرها بكبار قومها من الصالحين فنادوها بأخت هارون قيل أنه نبي الله هارون وقيل أنه أحد الصالحين من بني إسرائيل
ولم يتذكر بنوا إسرائيل أن مريم العذراء كانت تعتكف المحراب وأنها تربت في بيتنا بي وأنها لم تكن تبتغي الرجال وإنما لما رأوه استنكروا ذلك عليها واستعظموه
موقف بني إسرائيل من العذراء مريم عليها السلام جعلها تشير إلى رضيعها عيسي عليه السلام فتعجبوا لفعلها وقالوا لها كيف نكلم طفلا في مهده فأنطقه الله تعالى فابقوا لهم بأنه عبد لله تعالى ونبي من عنده
قال عز وجل {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)}
كيف ماتت السيدة مريم العذراء
كبر النبي عيسى عليه السلام وعاش مع والدته السيدة مريم عليها السلام ظهرا طويلا في الجبل يعبدان الله الجبار ويقومان الليل يصومان النهار ويأكلون من ورق أشجار ونبات الأرض ويشربان من ماء الأمطار حتى رفع عيسى عليه السلام إلى جوار ربه عز وجل وتوفيت أمه مريم عليها السلام بعده بخمس سنوات
حيث ماتت السيدة مريم العذراء في سن 53 سنة ورضي الله عنها وأرضاها وقد قيل أن قبرها في كنيسة داخل جبل طور تسمى كنيسة الجثمانية خارج باب الأسباط في القدس المحتلة
الدروس المستفادة من قصة السيدة مريم عليها السلام
وفي النهاية هناك الكثير من الدروس المستفادة من قصة السيدة مريم عليها السلام:
أولها أن الله تعالى إذا قضى أمرا هيأ له الأسباب وحثه بعنايته فالله تعالى لما كتب على مريم بنت عمران أن تحمل من غير زوج أحاطها بالرعاية والألطاف الإلهية حتى كانت قريرة العين
وتعلمنا أيضا قصة السيدة مريم العذراء عليها السلام أن الله تعالى كتب لكل إنسان في هذه الدنيا رزقا محتوما ومع ذلك يجب على الإنسان أن يسعى ليصل إلى رزقه فالله تعالى يسر لمريم جذع النخلة إلا أنه أمرها أن تهزه لتحصل على التمر وتكليف الإنسان في كسب رزقه هو من السنن التي جعلها الله تعالى في هذه الأرض
قصة العذراء مريم عليها السلام تعلمنا أيضا أن الله تعالى لا يرضى لعباده بالحزن والاستسلام فقد أمر مريم عليها السلام بأن تبقى قريرة العين مطمئنة النفس وهي في أصعب الأحوال فأمرها أن تأكل وتشرب وتبتعد بعد عن جدال الناس ونقاشهم لكي لا تحزن نفسها ويكدر عيشها
دمتم في رعاية الله وأمنه