ذكرنا في مقالة سابقة معركة شرسة ظهرت بين جيش العرب بقيادة جد الرسول العشرين عدنان بن أدد وبين بختنصر ملك إمبراطورية بابل الذي قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أورده بن كثير في كتابه أنه حكم الأرض كلها هذه المعركة هي غزو بختنصر معركة ذات عرق والتي سنتحدث عنها بالتفصيل في هذه مقالتنا هذه تابعونا.
ما هو سبب غزو بختنصر
أوحي الله عز وجل إلى نبيه أرميا بن حلقيا أحد أنبياء ذلك العصر أن يذهب إلى الملك بختنصر يأمره بغزو بلاد العرب لمقاتلاتهم وإغلاق بيوتهم واستباحة أموالهم عقوبة لهم على كفرهم بالله تعالى
قال نبي الله أرميا للملك بختنصر أو نبوخذنصر ما أمره الله به فما كان من هذا الملك إلا أن ابتدأ باقتتال العرب في بلاده وهم التجار الذين أتوا من نجد والحجاز فأخذهم وبنى لهم حران وهي مدة مدينة تقع اليوم في تركيا وحبسهم فيها وانتشر خبرهم في بلاد العرب
فخرجت إليه طوائف عربية مستأمنين وخاضعين يطلبون العفو فقبلهم وعفا عنهم وأنزلها بلادهم فابتنو في الأنبار مدينة لهم لتكون أول تواجد للعرب في العراق
استمر الملك بختنصر في قتال العرب وسار بجيشه الجرار إلى بلادهم في طسم وفي جوديس في نجد وهم قبيلتان من العرب عاشوا في الألف الأول قبل الميلاد وهم سكان جزيرة العرب القدامى كالعماليق وعاد وثمود وسار الملك بختنصر أيضا إلى عرب الحجاز
هنا أو حله عز وجل إلى نبيه أرميا عليه السلام يأمره أن يسير إلى مكة المكرمة في الحجاز فكانت تطوى له الأرض طيا حتى وصل إلى مكة قبل نبوخذنصر لينقذ معد بن عدنان الذي كان حينئذ ابن اثنتي عشرة سنة والذي سيأتي من نسله سيد الخلق وخاتم المرسلين محمد ابن عبد الله صلى الله عليه وسلم
لهذا السبب جعل الله تعالى الأرض تطوى طيا لأرميا عليه السلام حتى يمهد لقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم عبر إنقاذ جده معد بن عدنان فوجد هو أحمله معه وأخذوه إلى عمان لإنقاذ حياته
فقد ولد معد بن عدنان في وقت بدأ فيه العرب في الشرك وعبادة الأوثان وكذلك كان بنوا إسرائيل يقتلون أنبياءهم وكان آخر قتلى هم النبي يحيى بن زكريا عليهما سلام
من هو أرميا بن حلقيا
وأرميا عليه السلام عرف بالبكاء نظرا إلى أنه كثير البكاء خشية من الله تعالى وهو نبي من أنبياء بني إسرائيل وقد قيل إنه عزير وقيل هو الخضر ونسب إليه سفر أرميا
وقد اختلف حول شخصيته هل هو نبي من عند الله عز وجل أم رجل صالح دعا الناس إلى الله بدون رسالة أو وحي من السماء أم أنه أحد الأنبياء الذين ذكروا في القرآن الكريم سواء بأسمائهم أو صفاتهم
غزو بختنصر معركة ذات عرق
استمر الملك بختنصر في السير بجيشه الجرار فالقي جموع العرب في نجد فقاتلهم قتالا شديدة وسار إلى الحجاز فسامع ملك الحجاز حينئذ الأمير عدنان بن عدد والد معد والجد العشرون لرسول الله صلي الله عليه وسلم كما ذكرنا وهو سيد مكة الذي كان يكره بختنصر كرها شديدا
سمع الأمير بختنصر قدوم بختنصر فأخذ يجيش الجيوش ويحشد الحشود من كل القبائل والتقى عدنان مع بختنصر في منطقة ذات عرق شمال مكة فاقتتلوا قتالا شديدة فهزم الأمير عدنان وتبعه الملك بختنصر إلى حصونه في حرم مكة
إلا أن العرب جميعا اجتمعوا على قتال بختنصر وخندق كل و واحد من الفريقين على نفسه وأصحابه فافترقا ونها عدنان عن بختنصر ونها بختنصر عن عدنان لهذا لم يحقق الملك بختنصر نصرا مؤزرا كعادته في هذه الحرب مع العرب
لما عاد الملك بختنصر إلى بلاده في بابل عاد معد ابن عدنان جد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى مكة المكرمة مع كل أنبياء ذلك العصر فأقام أعلامها وأعاد حصونها وبنى أبنيتها بعد أن هدمت وحج وحج معه الأنبياء وتوفي قبلها عدنان ودفن في جبل أبي قبيس في مكة
عند عودة معد ابن عدنان إلى مكة المكرمة سأل عمن بقي من ولد الحارث بن مضاد الجرمي فقيل له بقي جوش بن جلهمة فتزوج معد ابنته معانة فولدت له نزار بن معد ومعد ابن عدنان هو الجد التاسع عشر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد حكي طبري وابن سعد أن معد بن عدنان كان يكنى أبا قضاعة وقال البلاذري كان يكنى أبا نزار ويقال أنه يكنى أبا حيده واسم معد عند العرب يعني الخشونة والرجولة
ومعد بن عدنان من ذرية سيدنا اسماعيل بن ابرايهم عليهم السلام وهما من ولد سام بن نوح من ذرية آدم عليه السلام
ومن المعروف أن النسب فوق عدنان مختلف فيه وقد ذكره النبي محمد مرسي صلى الله عليه وسلم في إشارة إلى قوله تعالى {وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَٰلِكَ كَثِيرًا (38)}
غير أنه معروف لدى العرب أن الولد قد ينسب إلى جده فنقول عدنان بن إسماعيل أو من ولد إسماعيل رغم أن بينهما دهرا واجيالا
وبالعودة إلى ذات عرق فقد أصبحت أحد المواقيت التي حددها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل العراق للحج والعمرة وقال فيها
(وَقَّتَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لأهْلِ المَدِينَةِ ذا الحُلَيْفَةِ، ولِأَهْلِ الشَّأْمِ الجُحْفَةَ، ولِأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنَ المَنازِلِ، ولِأَهْلِ اليَمَنِ يَلَمْلَمَ، فَهُنَّ لهنَّ، ولِمَن أتَى عليهنَّ مِن غيرِ أهْلِهِنَّ لِمَن كانَ يُرِيدُ الحَجَّ والعُمْرَةَ، فمَن كانَ دُونَهُنَّ، فَمُهَلُّهُ مِن أهْلِهِ، وكَذاكَ حتَّى أهْلُ مَكَّةَ يُهِلُّونَ مِنْها.) مصدر الحديث: صحيح البخاري
أي أن هذه المواقيت هي لأهل هذه البلاد ولمن مر بها وقد حدد رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضا ذا الحليفة لأهل المدينة ومن يمر عليها وهو موضع بينه وبين مكة 450 كيلومترا ويعرف بأبيار علي
أما أهل الشام ومن في طريقهم فقد حدد لهم رسول الله الجحفة ميقاتا لهم وهي في الشمال الغربي من مكة وقد صارت أيضا ميقات أهل مصر والشام ومن يمر عليها بعد ذهاب معالم الجحفة
وبالنسبة لأهل جدا فقد جعل لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قرن المنازل ميقاتا لهم وهو جبل شرقي مكة يطل على عرفات
أما أهل اليمن فقد حدد لهم الرسول جبل يلملم جنوبي مكة ميقاتا لهم
ومن كان في جهة غير جهة هذه المواقيت كأهل السودان الذين يمرون بجدة فهو حر يحرم في أي ميقات أو من حيث شاء برا وبحرا وجوا كما قال ابن حزم ومن أحرم قبل مروره بهذه المواقيت صح إحرامه
وفي فقه الشافعية أن من سلك طريقا لا تنتهي إلى ميقات أحرم من محاذاته فإن حاد ميقاتين أحرم من محاذاة أقربهما إليه فإن استوينا في القرب إليه أحرم من محاذاة أبعدهما من مكة وإن لم يحاذي ميقاتا أحرم على مرحلتين من مكة
في نهاية موسم كل حج يتردد سؤال كبير عن سبب إهمال ميقات ذات عرق وهو ميقات أهل العراق وشمال نجد ومن في حكمهم كما ذكر ذكرنا حيث أصبح الوصول إلى ميقات ذي عرق محالا سواء للحاج أو للمعتمر كونه مهجورا ومغيبا عن جميع برامج الحج والعمرة
غير أن الأمل لاح مؤخرا بعد أن أعلنت وزارة شؤون الإسلامية والأوقاف عن نيتها إعادة إعمار هذا الميقات الهام.
ويقع ميقات ذات عرق على طريق الحاج من البصرة في العراق إلى مكة المكرمة ويعد هذا الطريق الثاني في الأهمية حيث ينطلق من مدينة البصرة مارا بشمال شرق الجزيرة العربية عبر وادي الباطن مخترقا منطق منطقة صحراوية أصعبها صحراء الدهناء
ثم يأمر بمنطقة القصيم التي تكثر فيها المياه العذبة والوديان الخصبة والعيون ومن القصيم يسير الطريق محاذيا لطريق الكوفة مكة حتى يلتقي عند محطة أم خرمان التي تقع على مسافة عشرة أميال من موقع ذات عرق
كما يلتقي طريق البصرة بالطريق الرئيسي الممتد من الكوفة عند منطقة معدن النقرة التي يتفرع منها طريق يتجه إلى المدينة
وعلى جهة وادي ذات عرق الشرقية تم إنشاء بئر حديثة تبعد عن بئر الميقات القديمة والتاريخية مسافة 700 متر تقريبا ومع ذلك لا تزال المياه شحيحة جدا في المنطقة
وعلى بعد مسافة خمسين مترا فقط للشمال من البئر التاريخية قام أحد رعاة الأغنام بعمل مصلا من الحجارة لكي يصلي فيه من يمر على هذا الميقات محرما
وفي اتجاه الشرق عند البئر التاريخية يوجد نصب من الحجر المطلي باللون الأبيض على سفح جبل الميقات الشرقي قامت وزارة الشؤون الإسلامية السعودية بعمله للدلالة على الميقات
وعلى بعد أربعين كيلومترا للشرق من ذات عرق تقع إحدى برك زبيدة زوجة هارون الرشيد على في وادي العقيق أشهر أودية المدينة المنورة والذي اكتسب شهرته لارتباطه بسيرة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم
وسمي هذا الوادي بالوادي المبارك لقول الرسول صلى الله عليه فيه وسلم (أتاني الليلةَ آتٍ من ربِّي وأنا بِالعَقِيقِ أنْ صَلِّ في هذا الوَادِي المُبارَكِ .)
ولواد العقيق ارتباط وثيق بتاريخ المدينة المنورة وقد فرشت أرض المسجد النبوي في عهد خليفة رسول الله عمر بن الخطاب بحصي ناعمة من أرضه وكان في بعض العهود الماضية أشبه بنهر دائم الجريان لذلك نشأت بقربه المزارع وبنيت على ضفافه القصور خصوصا في العهدين الأموي والعباسي
أبرز تلك القصور قصر سعيد بن العاص وقصر مروان ابن الحكم وقصر سكينة بنت الحسين وقصر سعد ابن أبي وقاص وقصر عروة بن الزبير الذي ما زالت بعض مبانيه قائمة حتى الآن
ومن يصل لميقات ذات عرق يلاحظ أن وادي الميقات يحده من الشرق والغرب سلسلة من الجبال الضخمة والتي تتميز الأحجار المكونة لها بأنها ذات لون أسود ممزوج باللون الأحمر
وهذه الجبال متصلة بجبال الحرة الشهيرة التي تحد وادي العقيق الشهير من جهة الغرب وجبال الحرة هذه في الغطاء البركاني الوحيد داخل النطاق الرسوبي في المملكة العربية السعودية
وتبلغ lساحتها داخل الأراضي السعودية قرابة 15 ألفا و 200 كيلو متر تقريبا وهو ما يمثل ثلث مساحتها الإجمالية وتحتوي جبال الحرة على البازلت في لاباتها والذي يعود إلى عصر الميوسين وعصر البليسوسين وأعلى قمة في المنطقة أهي قمة جبل لاس وارتفاعها 1128 مترا تقريبا
الدروس المستفادة من غزو بختنصر معركة ذات عرق
وفي النهاية هناك دروس مستفادة كثيرة من قصة معركة ذات عرق أهمها :
- أن الله عز وجل وجل يحفظ رسله حتى قبل أن يولدوا وهو ما حدث مع الجد العشرين والجد التاسع عشر للرسول محمد صلى الله عليه وسلم
- كما أن الله عز وجل قادر على أن يسلط الظالمين على الظالمين للانتقام لأنبيائهم رضي الله عنهم وأرضاهم وهو ما حدث في غزو الملك الكافر بختنصر لبيت المقدس وتنكيله ببني إسرائيل وسبيلهم وذلك بعد قتلهم لنبي الله يحيى عليه السلام
- القصة تعلمنا أيضا أهمية التحلي بالشجاعة في مواجهة أي أخطار وهو ما قام به عدنان ابن أتد جد رسول العشرين عندما قرر مواجهة جيش بختنصر المظفر القوي رغم استسلام كثير من العرب وهو ما أدى لنجاح الأمير عدنان سيد مكة في إيقاف تقدم بخطاب نصر نحو الجزيرة العربية دمتم في رعاية الله وأمنه