العالم بعدها، ليس كما كان قبلها، معركة ديو البحرية إنها واحدة من المعارك التي يمكن أن تطلق عليها هذه الجملة، فتلك المعركة الكارثية التي دارت بين المماليك والبرتغاليين لم تكتفي بتدمير قوة المماليك العسكرية والتجارية، وعجلت بسقوط دولتهم.
بل إنها أيضا قلبت موازين القوى في العالم، فأنهت سيطرة المسلمين على البحار، وأفسحت الطريق أمام القوى الأوروبية نحو المشرق الإسلامي، إنها معركة ديو البحرية، تابعونا للنهاية، لنعرفكم على تلك المعركة التي غيرت التاريخ.
دولة المماليك قبل معركة ديو البحرية
مع بدايات الفتح الإسلامي سيطر العرب المسلمون على طرق تجارية دولية، رابطة بين الشرق والغرب، وتمكن من رد الأوروبيين على أعقابهم، وتقليم أظافرهم وحد قوتهم، ورغم أن بعضا من ملوك أوروبا استطاعوا استعادة بعض الجزر في البحر المتوسط وعلى رأسها جزيرة صقلية وقبرص،
ووصلت بعض حملاتهم لسواحل الشام ومصر، وتمكن من تأسيس عدد من الإمارات في المشرق الإسلامي، إلا أن القوى الإسلامية استطاعت أن ترده مهزومين، ومن أبرز تلك القوى دولة المماليك التي برزت في ظروف صعبة للغاية وسط الحملات الصليبية والاجتياح المغولي للمشرق الإسلامي.
إلا أن المماليك كانوا أهلا لتلك التحديات الجسيمة، فاستطاعوا كبح جماح المغول، وأنهو الوجود الصليبية في الشام، ووحدوا العالم الإسلامي تحت رايتهم، وأصبحت هذه الدولة هي دولة الخلافة الإسلامية.
وإلى جانب تلك المكانة السياسية والدينية، كان الموقع الجغرافي لدولة المماليك يؤمن لها ثروة هائلة، فقد كان لمصر دور تجاري هام في طريق التجارة الدولية، حيث كانت التجارة الشرقية تمر عبر الهند ومنها إلى البحر الأحمر، ومن بعده إلى موانئ البحر المتوسط، ثم إلى أوروبا.
بالإضافة إلى تحالف المماليك مع الجمهوريات التجارية الهامة في إيطاليا، وعلى رأسها البندقية التي كانت تعمل على إيصال التجارة للدول الأوروبية وتقبل العملة المصرية وتتداولها نظرا للترابط التجاري مع مصر.
فانتعشت خزينة دولة المماليك وازدهار اقتصادها، بل كان هذا أزهى عصر اقتصاديا عرفته الأمة الإسلامية بعد العباسيين.
لكن هذا الوضع سرعان ما تغير مع نهايات القرن الخامس عشر الميلادي، فمن جهة كانت دولة المماليك قد بدأت تشيخ وتدخل في مرحلة الانقلابات العسكرية والصراعات الداخلية على الحكم، ومن جهة أخرى كانت هناك قوة أوروبية صاعدة بدأت تهدد دولة المماليك، ومعها العالم الإسلامي، إنها البرتغال.
صراع دولة البرتغال مع المماليك قبل معركة ديو البحرية
في أواخر القرن الخامس عشر، برز اسم والبرتغال باعتبارها القوة الملاحية الأقوى في أوروبا، وقد اعتبرت البرتغال نفسها نصيرة المسيحية وراعيتها ضد المسلمين، ووضع البرتغاليون نصب أعينهم تطويق العالم الإسلامي و وضعه بين فكي كماشة كي يسهل على الصليبيين القضاء عليها من خلال الالتفاف حول العالم الإسلامي.
وإلى جانب الدافع الديني، كان هناك دافع عن اقتصادي يحرك البرتغال، وهو سعيها إلى الهيمنة على التجارة الدولية من خلال إحداث اختراق ما لكسر هيمنة المشرق العربي على تلك تجارة.
وهكذا بدأت أوروبا عصر الاكتشافات الجغرافية، وكان البرتغال في مطلعها بفضل الأمير هنري الملاح الذي اهتم كثيرا بتطوير قدرات بلاده البحرية، وسعي إلى اكتشاف الطرق البحرية الجديدة والعالم الجديد.
فبدأت الاكتشافات تتوالى، ثم حلت الكارثة بالمماليك، عندما وصل البحار البرتغالي فاسكو دي جاما إلى الهند، مكتشفا بذلك طريقا بحريا يمكن من خلاله التبادل المباشر بين أوروبا وآسيا، يعرف باسم طريق رأس الرجاء الصالح، وذلك في عام 904 للهجرة 1497 للميلاد.
لتتغير موازين القوة في العالم، فبدلا من وصول البضائع الآسيوية من خلال مصر والشام، أصبح بإمكان البرتغاليين أي دور بسفنهم حول إفريقيا متصلين بآسيا دون الوسيط التقليدي، دولة المماليك.
بات الأمر خطيرا، فهذا الطريق أدى إلى حرمان دولة المماليك من عماد اقتصادها القائم وقتها على عائدات الضرائب التي كانت تفرضها على التجارة القادمة من الشرق.
أيضا، هدد هذا الطريق اقتصاد البندقية، إذ إن هذا سيعني أن البرتغال ستنافسها في توصيل البضائع الآسيوية إلى أوروبا، وسيقضي عليها حتما، لأن الطريق الذي كانت البندقية تعتمد عليه، يكلف أكثر عادة بسبب الضرائب والجمارك لدولة المماليك.
حتى الدولة العثمانية تأثرت هي أيضا بسبب فرضية تغيير مسار التجارة الدولية، لأن الطريق الجديد أصبح يهدد الطريق البري التقليدي للتجارة نفسها من الصين إلى أوروبا.
ولم يكتفي البرتغاليون بذلك، فقد هاجم الأسطول البرتغالي ميناء كاليكوت الهندي عام 1501 للميلاد، وبعدها بعامين استولى البرتغاليون على سفينة تجارية مملوكية وهاجموا أسطول المملوك يا صغيرا بعدها.
كما عمد إلى الاعتداء على القوافل والسفن التجارية في بحر العرب والمحيط الهندي بشكل متواصل، وتطلعوا إلى الوصول للبحر الأحمر، واستولى بالفعل على مدينة سومطرة في مدخل البحر الأحمر، ومنعوا سفن المسلمين وتجارتهم من المرور.
ويبدو أن ضعف المماليك قد أغرى البرتغاليين إلى التمادي أكثر، فأعلنوا أنهم سيدمرون الأماكن المقدسة في مكة والمدينة.
وهنا كان لا بد من التصدي للبرتغاليين قبل أي نفذ تهديداتهم، فبذل المماليك ما في استطاعتهم لمنع وصول البرتغاليين إلى الأماكن المقدسة، وتحالفت معهم الدولة العثمانية ضد البرتغاليين.
كذلك دخلت البندقية في هذا الحلف، إذ لم تكن راغبة بوجود منافس تجاري قوي لها في أوروبا، وأبدت استعدادا كبيرا للمساهمة في النشاط العسكري للتخلص من الخطر البرتغالي الجديد.
وبالفعل تم إرسال السفن الحربية إلى مصر بمساعدة البندقية والدولة العثمانية، ووصلت السفن إلى موانئ البحر المتوسط وتم تفكيكها، ومنها إلى البحر الأحمر، وهكذا دقت طبول الحرب، فكيف ستكون المواجهة بين المماليك والبرتغاليين يا تري؟ ترقبوا معنا تلك الأحداث التي ستغير التاريخ.
معركة شاول
في أواخر عام 1507 للميلاد تحرك الأسطول المملوكي المكون من 13 سفينة عليه 1500 رجل بقيادة الأمير حسين الكردي، تحرك باتجاه المحيط الهندي ومحيط الموانئ الهندية للبحث عن السفن البرتغالية، فالتقى بها على مدينة جوا على ساحل مالابار.
ودارت معركة حاسمة بين الأسطول المملوكي و السفن البرتغالية عرفت باسم معركة شاول أو موقعة جوا غرب الهند، وذلك في عام 914 للهجرة 1508 للميلاد.
وكانت النتيجة هزيمة القوات البحرية البرتغالية التي كان يقودها لورينزو ابن نائب الملك البرتغالي على مستعمراته القليلة في الهند فرانسيسكو دي الميدا الذي قتل في المعركة وهو ما جعل والده مصمما على الثأر له بأي ثمن، وبدأ يجهز لمعركة يثأر فيها لابنه الشاب.
معركة ديو البحرية
بعد انتصار المماليك في معركة شاول عاد الأمير حسين الكردي إلى مرفق جزيرة ديو الواقعة في المحيط الهندي، وأقام فيه منتظر انتهاء موسم الأمطار، ليعود إلى مصر، لكن البرتغاليين بقيادة فرنسيسكو دي ألميدا أقدموا على احتلال عدد من المواقع الإسلامية على الساحل الهندي في أوائل عام 1509 للميلاد،
ومنها غوا ودابول، وما لبث أن اكتشف فرنسيسكو وجود أسطول المماليك قربا ديو في 3-2-1509م للميلاد، فشن هجوما فوريا عليهم، وبالرغم من أن الأسطورة المملوكي كان الأكبر من حيث عدد القطع البحرية وعدد المقاتلين، إلا أن الأسطورة البرتغالية كان الأقوى والأفضل تسليحا.
أضف إلى ذلك أن البحرية المملوكية لم تكن لديها القدرة على التفوق التكتيكي بسبب غياب المدفعية الثقيلة لأسباب مرتبطة بحجم السفن، وهيكلها وهو ما أعطى البرتغاليين التفوق الكامل، وكان المماليك قد لجأوا إلى البقاء بالقرب من الشاطئ، اعتمادا على غطاء المدفعية التي توفرها القاعدة العسكرية لميناء ديو وفي مواجهة التفوق البرتغالي.
لكن دي الميدا قسم أسطوله لأربعة أقسام، وبدأ هجومه بعيدا عن مدفعية الجزيرة مركزا على الأسطول البحري، ليدمر الأسطول المملوكي تماما، ويسيطر على بعضه، ودون الكثير من الخسائر وهرب الأمير حسين الكردي بالقوات القليلة المتبقية معه،
في حين قام فرنسيسكو بقصر ما استطاع من المماليك وأحرقهم ونكل بهم.
نتائج معركة ديو البحرية
كانت نتائج معركة ديو البحرية كارثية بحق فقد انفرد البرتغاليون بطريق التجارة الجديد مما سمح لهم بان يمدوا نفوذهم من اليابان شرقا إلى البرازيل غربا، وسيطروا على طريق التجارة الآسيوية.
كما أصبح البرتغاليون أصحاب السيادة على المياه الإسلامية الجنوبية.
ومع سيطرة الأوروبيين على الهند وجنوب شرق آسيا انتهى الحكم الإسلامي للهند الذي استمر أكثر من ثلاثة قرون كاملة.
كما نتج عن تلك المعركة أيضا بداية انهيار القوى الأوروبية التجارية، وعلى رأسها البندقية وجمهورية راجوسا، في حين انحصرت قوة العثمانيين في المتوسط وشرق أوروبا.
أما بالنسبة لدولة المماليك، فقد كانت تلك المعركة نهاية الدور الذي لعبته مصر على المستوى الدولي كقوة عظمى وانهارت دولة المماليك بعد هذه الهزيمة، وما هي إلا ثمان سنوات حتى سيطر عليها العثمانيون.
نأمل بأن يكون المحتوى عن معركة ديو البحرية قد نال إعجابكم، ابقوا في امان والسلام.