المرأة قديمًا
كتب/ هاجر أبوريا
المرأة المصرية القديمة:
كانت المرأة في مصر منذ أقدم العصور مبعث الجهاد الروحي، حتى أنهم قد جعلوا المعبودة “ماعت” رمز العدالة والبر والحق، وقد سجل لنا التاريخ أسماء المعبودات والملكات والكاهنات، ولكن العظمة الروحية التي امتازت بها المرأة في مصر لا ترتكز على هؤلاء وحدهن – إذ هن يؤلفن أقلية – بل ترتكز فوق ذلك على أن المرأة كانت مسؤولة عن أولادها أمام معلميهم، كما كانت مسؤولة عن والديها في شيخوختهما، فهي لم تكن مصدر الوحي فقط بل كانت حاملة الشعلة أيضًا.
المرأة عند ظهور المسيحية:
واعتنق المصريون المسيحية فظلت المرأة مصدر الوحي، وظلت حاملة الشعلة، فقد روضت نفسها على السمو بأخلاقها وفضائلها حتى صارت نموذجًا للوثنيين، وقدوة مُثلى اجتذبت هؤلاء الوثنيين إلى دين المسيح بطريقة معيشتها، لأنها كرست حياتها للخدمة في خشوع، واضعة نصب عينيها كلمة “بولس الرسول”: أنتم هيكل الله وروح الله ساكنة فيكم، ومن ثم عاشت باستقامة وطهارة، فانتزعت احترام الجميع انتزاعًا، وكانت التعاليم التي تسلمها التلاميذ من السيد المسيح عن كرامة الشخصية الإنسانية تتردد على مسامع الشعب كل يوم إذ كان “إكليمنضس الإسكندري” يعلن عظمة الزواج المسيحي في محاضراته بالمدرسة السكندرية، وكان يبين لسامعيه كرامة هذا الزواج الذي جعلت منه الكنيسة سرًا مقدسًا ورباطًا روحيًا يعقده الكاهن بمقتضى ما ناله من سلطان تسلمه من الرسل أنفسهم، ومن أن السيد المسيح بارك العرس في قانا الجليل، وكان الوثنيون يحتقرون الطهر والعفاف ويتباهون بما هم فيه من فساد.
استماع الوثنيين لمحاضرات إكليمنضس:
والعجيب أن هؤلاء الوثنيين الذين كانوا يصغون إلى محاضرات “إكليمنضس” وغيره من معلمي الكنيسة عن الواجبات النبيلة المفروضة على الزوج وزوجته، وعن قدسية الزواج، وكانوا يصفون بانتباه تام لأنه كان لا يزال بهم حتى يصعد بنفوسهم إلى ذروة الحكمة التي بلغها، فإذا ما قارن المستمعون إلى محاضرات “إكليمنضس” بين تعاليمه، وبين الحياة التي يحياها المسيحيون وجدوها صورة صادقة للإيمان بقدسية الزواج، لأن الزوجة المسيحية كانت مثالاً حيًا للكرامة الإنسانية التي تترفع عن النزول إلى حمأة الرذيلة، وحين أبصر الوثنيون هذا التقديس للزواج وهذا التمسك التام بالعفاف، تحولوا تدريجيًا نحو هذا الدين الذي ارتفع بالصلة الزوجية إلى مرتبة الروحيات.
ومع أن التاريخ يذكر سير النساء اللواتي بلغن مكانة روحية سامية، إلا أن هناك (آلافًا) من الجنديات المجهولات اللواتي عرفن معنى الفضائل المسيحية وعشن بموجبها، ومن أرق الأمثلة عن هاته النسوة المجهولات قصة يرويها الأنبا “مكاري الكبير” بنفسه، فإنه – على الرغم من حياة النسك والرهبنة التي كان يحياها ـ كان يؤمن بأن كل من يفعل إرادة الله ينال رضاه، فقد شاء ذات يوم أن يعرف درجة القداسة التي وصل إليها، فرأى في رؤى الليل ملاكًا ينبته بأنه بلغ مرتبة سيدتين في بلدة معينة، فلما أصبح الصباح ترك صومعته قاصًا البلدة التي أشار إليها الملاك، ولقد أدركت المرأة المصرية قدسية الأمومة كما أدركت قدسية الزواج تماماً.
الأم المسيحية:
فلم يعد للأم المسيحية شاغل إلا العناية بأولادها والسهر على تربيتهم تربية تتفق والكمال المسيحي، وقد دفعها هذا الإدراك إلى التفاني والمحبة، ولم تكن أمومتها منصبة على أولادها الذين ولدتهم فقط، بل اتسعت لتشمل الأولاد المحتاجين إلى العناية في شتى صورها، فلقد استشهد “أبو أوريجانوس” في الاضطهادات التي أثارها “سبتيموس ساويرس” في أواخر القرن (الثاني) للمسيحية، وكان “أوريجانوس” لا يزال يافعًا مع كونه أكبر إخوته (السبعة)، ولم يكتف الإمبراطور الروماني الظالم بأنه أفقد هؤلاء الأولاد أباهم وعائلهم بل صادر أموالهم أيضًا، بهم سيدة غنية من سيدات الإسكندرية لم يذكر التاريخ اسمها، وسهرت على تربية هؤلاء الأطفال اليتامى، وبذلك هيأت الفرصة “لأوريجانوس” ليكون من أبرز المعلمين الذين أنجبتهم الكنيسة المصرية، ومن أعلام الفكر المصري الناضج، ولقد كان من أثر تمسك المرأة بكرامتها وحفظها لطهرها وإدراكها الصحيح لمسؤلياتها أن وثق بها آباء الكنيسة ومعلموها.
أوريجانوس:
فنجد أن “أوريجانوس” ناظر مدرسة الإسكندرية حين سجل الكتاب المقدس في لهجات مختلفة، استخدم (سبع) شابات يُجدن الخط كي يكتبن له هذا الكتاب في صيغته النهائية بعد التنقيح والتعديل، ولما بدأت الاضطهادات المروعة
التي شنها أباطرة الرومان على المصريين كانت المرأة قوة راسخة شدت من عزيمة الرجال، إذ كانت تقف إلى جانبهم وهم يسامون أنواع العذاب تشجعهم على احتمال ما يلاقون من هول، وبعد ذلك تتلقى هي ما يلقاه الرجال من صنوف التنكيل في سكينة وثبات، وكان يحدث أحيانًا أن يحببن الرجل فتكون المرأة سببًا في أن يستعيد شجاعته، وأبرز مَثَل لذلك السيدة “دميانة” التي كانت الابنة الوحيدة “لمرقس” وإلى “البرلس”، وكانت قد طلبت إليه أن يبني لها قصرًا تقيم فيه بمنأى عن العالم لتخلو فيه إلى ربها وتقضي عمرها في الزهد والتقشف، وفي الصوم والصلاة، وفي التأمل والعبادة، فأجابها أبوها إلى رغبتها وبنى لها قصرًا في المنطقة المعروفة الآن بالبراري بالقرب من بلقاس، حيث عاشت فيه في أمن وسلام مع (أربعين) عذراء نذرن العفة والطاعة مثلها، وعشن جميعًا في هدوء وطمأنينة، إلا أن “دقلديانوس” الإمبراطور الروماني أثارها حربًا شعواء على المسيحيين فجرَّعهم صنوف التعذيب والتنكيل.
انتهاء الاضطهاد:
ثم انتهت الاضطهادات، وحل الأمن والطمأنينة، فعادت المرأة إلى مزاولة أعمالها العادية، فالزوجة انصرفت إلى بيتها، والأم عادت إلى تربية أولادها، وإلى جانب الزوجة والأم كانت توجد من وهبت حياتها لخدمة الله والناس، واختارت أن تكون راهبة أو شماسة أو كليهما في آنٍ واحد، ولم تكن حياة العبادة منصبة على العبادة والتأمل فقط بل شملت العمل اليدوي والعقلي والخدمة الإجتماعية أيضًا.
المرجع/
حضارة مصر في العصر القبطي.
——————————————————————————
((كل هذا في اطار مبادرة حكاوي لنشر الوعى الأثري و الترويج و دعم السياحة المصرية تحت اشراف فريق ديوان التاريخ))
#مبادرة_حكاوى
#الموسم_الخامس
#أصل_التاريخ_ديوان_التاريخ