البيمارستانات
كتبت/ روناء نصر
العصور القديمة:
لم تكن المستشفيات معروفة في العصور القديمة، فعند استعراضنا للحضارات القديمة المختلفة لم نلحظ وجود مكان مخصص لمعالجة المرضى وبيات البعض منهم، فالمعالجة كانت غالباً ما تتم من قبل كهنة قبطيين أو سحرة مشعوذيين، وخصص قسم من المعبد لإجراء هذه المعالجات التي كان قوامها السحر والرقي والتعاويذ أكثر منها المعالجة بالمادة الطبية، ومثال ذلك ما نراه في حضارة مصر القديمة في ما دُعِيَ بيت الحياة “بير عنخ”، وفي الحضارة الإغريقية كانت المعابد التي يتصدرها تمثال “اسكولاب” هي أماكن المعالجة، وذلك قبل أن يأتي “أبقراط” وبعد “أبقراط”، وفي الحضارة الرومانية التي ورثت الحضارة الإغريقية لم نعثر على أى دليل يبين وجود أماكن تشابه المستشفيات بعملها وتنظيمها وحجمها وعدد العاملين فيها وتنوع اختصاصاتها.
عصر صدر الإسلام:
وقد رأينا في صدر الإسلام أيام غزوات رسول الله ﷺ كيف قامت السيدتان العربيتان “رفيده الاسلمية وأم عطية الأنصارية” بإسعاف الجرحى والمصابين، فالخيمة التي نصبت “لرفيده الأسلمية” في غزوة الخندق بجوار خيمة رسول الله ﷺ هذه الخيمة التي يمكن اعتبارها بمثابة مستشفى ميداني صغیر، ونرى مثیلاً لهذه المستويات من الرعاية للجرحى في المعارك في الحضارة الرومانية التي عنيت كثيراً بالجانب الجراحي من العلم الطبي.
كلمة بيمارستان:
كلمة مركبة بأصل فارسي تعني دار المرضى، حيث بيمار بمعنى مريض، ستان بمعنی دار، ولعل الأصل الفارسي لهذه الكلمة ينبثق من أول بيمارستان أُنشيء تحت هذا الاسم في بلاد فارس في مدينة جُندي سابور، وعند الفتح الإسلامي لبلاد فارس أخذ المسلمون ذلك عن الفرس ولا ننسى أن الكثيرين ممن عملوا في البلاد الإسلامية أطباء وممارسي للمهن الطبية الأخرى أتوا من جندى سابور، ويقال أن أول بیمارستان أُنشيء في الدولة الإسلامية كان أيام “الوليد بن عبد الملك”، وقد تميز نوعان من المستشفيات في الدولة الإسلامية، نوع ثابت وآخر متحرك محمول على الجمال، وسنشرح هذا النوع بعد أن نعرض البيمارستانات الثابتة.
أشهر البيمارستانات:
على الرغم مما يذكر من أن أول بيمارستان أنشيء في الديار الإسلامية هو في عهد “الوليد بن عبد الملك”، وذلك في دمشق عاصمة الأمويين، فإن البيمارستانات الشهيرة والتي ذاع صيتها وبقيت آثارها فترة طويلة من الزمن كانت في فترة ازدهار الحضارة الإسلامية العربية، أي بدءاً من العصر العباسي، حيث نجدها وقد انتشرت في حواضر الدولة الإسلامية في بغداد ودمشق والقاهرة والري وتونس وغيرها .
دور البيمارستانات:
ولم تقتصر البيمارستانات على دورها في المعالجة والتطبيب فقط، بل كانت مستشفيات جامعية بحق، وكانت بمثابة نظام مكتمل للتدريب والتدريس في العلوم الطبية المختلفة، وذلك عن طريق التحاق الطلبة بالأطباء وبصورة خاصة رئيس الأطباء، حيث يرافقونه في فحص المرضى وتشخيص دائهم وفي الزيارات للمرضى، كما كانت تعقد اجتماعات علمية موسعة لدراسة الحالات المرضية وبصورة خاصة تلك المعقدة منها، حيث يجلس الطبيب المختص وسط معاونيه في صدر قاعة الإجتماع ويحضر كتب الاشتغال أي المراجع الطبية من خزائن موجودة في القاعة، ويُجري المباحث الطبية ويُقريء التلاميذ ولايزال معهم في مباحثة ونظر في الكتب ساعات قبل أن يركب إلى داره.
دعم الخلفاء للبيمارستانات:
وكانت البيمارستانات تحظى بدعم من الخلفاء والسلاطين والأمراء والوزراء، حيث غالباً ما كانت تنشأ بأمر من ولي الأمر وتحت رعايته، ويتابع ولي الأمر العمل فيها، وكانت تقرر لها الأوقاف التي تدر المال للصرف عليها، وجهزت بكل ما تحتاجه من أدوات ومواد ولحف وفرش وأسِرّة والطعام والشراب، وعادةً ما كانت البساتين ممتدة بجوار البيمارستان وتابعة له كما يلحق بالبيمارستان حمامات وإلى جواره مسجد بسعة مناسبة، وفي الغالب فإن للبيمارستان ناظر يشرف على إدارة الأموال والأوقاف التابعة له، وكان هذا المنصب من المناصب الهامة في الدولة والتي يحرص عليها القوم، وقد بلغ عدد الأطباء في أحد هذه البيمارستانات (ثمان وعشرون) طبيباً.
ومن البيمارستانات المشهورة في الدولة الإسلامية:
البيمارستان النوري أو الكبير :
وهو الذي بناه السلطان “نور الدين الزنكي” من مال الفدية الذي حصل عليه من ملك من ملوك الفرنجة الصليبيين بعد أسره، وقد بناه “نور الدين” في مدينة دمشق، وقد بلغ من السعة والفخامة بحيث كان من أشهر البيمارستانات في تلك الأيام، وظل يعمل حتى أواخر القرن (التاسع عشر).
البيمارستان المقتدري:
وقد أمر به الخليفة العباسي “المقتدر بالله” بعد أن نصحه بذلك رئيس المحتسبة “سنان بن ثابت بن قرة”.
البيمارستان العضدي:
أقامه الوزير عضد “الدولة بن بوية” في مدينة بغداد حوالي (٣٦٨ هـ)، وكان يضم (أربعة وعشرين) طبيباً ومن أشهر من عمل فيه أمين الدولة ابن التلميذ.
البيمارستان العتيق:
والذي أنشأه “أحمد بن طولون” سنة (٢٥٩ هـ)، وخصصه لغير العساكر إذ اشترط أن لا يعالج فيه جندي أو مملوك.
البيمارستان الناصري:
الذي أقامه السلطان “صلاح الدين الأيوبي” في أحد قصور الفاطميين بعد أن خلع البيعة عنهم وجعلها للخلفاء العباسيين في بغداد وذلك سنة (٥٦٧ هـ).
البيمارستان المنصوري أو بيمارستان قلاوون:
أقامه الملك “المنصور قلاوون الشالحي” من أمراء المماليك في القاهرة وذلك عام (٦٩٣ هـ)، وقد بني على مساحه كبيرة تبلغ عدة أفدنة وشُيّد جانب من البيمارستان مسجد ومدرسة وأوقف له كثير من الأملاك، مما يعتبر من أفضل وأكبر البيمارستانات في العصورالوسطى.
البيمارستانات المحمولة أو المتنقلة:
عرف هذا النوع من المستشفيات في الدولة الإسلامية، والذي هو مستشفى صغير مستكمل كافة عناصر من أطباء وصيادلة وخدم، ومعه كافة الأدوات والأدوية والشرابات والأغذية والملابس، وهذا كله محمل على عدد من الجمال قد تبلغ (الأربعين) جملاً، وقد كان يصحب الحملات أو يرسل إلى الأماكن التي ليس فيها بيمارستانات ثابتة، ومن هذا النوع ما أنشيء في عصر “المقتدر بالله” بناءاً على كتاب يقترح فيه رئيس المحتسبة “سنان بن ثابت بن قرة” إقامته في السواد، حيث يقول فكرت فيمن بالسواد من أهله، وأنه لا يخلو من أن يكون فيه مرضى لا يشرف متطبب عليهم الخلو السواد من الأطباء، فتقدم مد الله في عمرك بإيفاد متطببين وخزانة من الأدوية والأشربة يطوفون بالسواد ويقيمون في كل صقع منه مدة ما تدعوا الحاجة إلى مقامهم ويعالجون من فيه ثم ينتقلون إلى غيره، ومن البيمارستانات المحمولة ما كان الأمراء يستخدمونها أثناء حروبهم أو أثناء خروجهم إلى البر، حيث يصاحبهم كل ما يحتاجون إليه.
المرجع/
محمد عفت، حسن الشوري،محمد خوام/ تاريخ العلاج والدواءفى العصور الإسلامية.
——————————————————————————
((كل هذا في اطار مبادرة حكاوي لنشر الوعى الأثري و الترويج و دعم السياحة المصرية تحت اشراف فريق ديوان التاريخ))
#مبادرة_حكاوى
#الموسم_الخامس
#أصل_التاريخ_ديوان_التاريخ